Call us now:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى أله أفضل الصلاة وأزكى التسليم أما بعد : ذكر المحامي والدكتور تفصيلا حول موضوع الأمر والنهي في اصول الفقه وفيما ياتي اهم ماذكر فيها :
تعريف الأمر:
عرف المصنف الأمر بقوله: “اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ عَلَى سبِيلِ الْوُجُوبِ”. أي: بأن لا يجوز له الترك. فقوله: “اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ” يخرج به النهي؛ لأنه استدعاء الترك. وقوله: “بِالقَوْلِ” يخرج به الطلب بالإشارة والكتابة والقرائن المفهمة. وقوله: “مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ” يخرج به الطلب من المساوي والأعلى، فلا يسمى ذلك أمراً، بل يسمى الأول التماساً، والثاني دعاء وسؤالاً. وهذا قول جماعة من الأصوليين، والمختار أنه لا يعتبر في الأمر العلو، وهو أن يكون الطالب أعلى رتبة من المطلوب، ولا الاستعلاء وهو أن يكون الطلب على سبيل التعاظم.
والفرق بين العلو والاستعلاء أن العلو كون الآمر في نفسه أعلى درجة من المأمور، والاستعلاء أن يجعل نفسه عالياً بتكبر أو غيره، وقد لا يكون في نفس الأمر كذلك، فالعلو من صفات الآمر والاستعلاء من صفات كلامه.
وقوله: “عَلَى سبِيلِ الْوُجُوبِ” يخرج الآمر على سبيل الندب بأن يجوِّز الترك.
وكلام المصنف يقتضي أن المندوب ليس مأموراً به؛ لأن الأمر به ليس على سبيل الوجوب، وفيه خلاف مبني على أن لفظ الأمر حقيقة في الوجوب، أو في القدر المشترك بين الإيجاب والندب وهو طلب الفعل، وقيل: إنه حقيقة في الندب، وقيل غير ذلك.
صيغة الأمر:
أشار المصنف الى صيغة الأمر بقوله: “وَصِيغَتُـهُ افْعَلْ” أي: صيغة الأمر الدالة عليه “افْعَلْ” أي: كون اللفظ دالاً على الأمر بهيئته، وليس المراد هذا الوزن بخصوصه.
دلالةُ الأمر:
تناول الأصوليون دلالة الأمر من عدة حيثيات، وبيانها في الآتي:
من حيث الإلزام وغيره:
تدل صيغة الأمر عند الإطلاق على الوجوب، ما لم تصحبها قرائن تصرفها إلى الندب أو الاباحة أو نحو ذلك، لقول المصنف: “وَهِيَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّجَرُّدِ عَنِ الْقَرِينَةِ تُحْمَلُ عَلَيْهِ، إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ النَّدْبُ أَوِ الْإِبَاحَةُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ”.
من حيث المرة والتكرار:
اختُلف في صيغة الأمر إذا أطلقت: هل تقتضي المرة أو التكرار؟
القول الأول: أنها تقتضي حصول المأمور به دون تقييد بالتكرار ولا بالمرة الواحدة، وهو الصحيح، وفي ذلك قال المصنف: “ولا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ عَلَى الصَّحِيحِ، إِلَّا إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى قَصْدِ التَّكْرَارِ” أي: ولا تقتضي صيغة الأمر العاريةُ عمَّا يدلُّ على التقييد بالتكرار أو بالمرة التكرارَ ولا المرة على القول الصحيح، لكن المرَّةُ ضرورية؛ لأن ما قصد من تحصيل المأمور به لا يتحقق إلا بها، والأصل براءة الذمة مما زاد عليها إلا ما دلَّ الدليل على قصد التكرار فيه فيعمل به، كالأمر بالصلوات الخمس وصوم رمضان فقد قامت القرائن والأدلة على قصد التكرار.
القول الثاني: وهو مقابل الصحيح أنه يقتضى التكرار، فيستوعب المأمور بالفعل المطلوب ما يمكنه من عمره حيث لا بيان لأمد المأمور به؛ لانتفاء مرجح بعضه على بعض.
القول الثالث: يقتضى المرة.
القول الرابع: التوقف.
وقد اتفق القائلون بأنه لا يقتضي التكرار على أنه إذا عُلق على علة محققة نحو: من شهد الزور فعزروه، أنه يقتضى التكرار.
من حيث الفور والتراخي:
صيغة الأمر إذا أطلقت تقتضي حصول المأمور به دون تقييد بالفور ولا بالتراخي، قال المصنف رحمه الله: “وَلَا تَقْتَضِي الْفَوْرَ” أي: ولا تقتضى صيغة الأمر الفور، يريد ولا التراخي إلا بدليل فيهما؛ لأنَّ الغرض إيجادُ الفعل من غير اختصاص بالزمن الأول أو الثاني؛ لأن الفور والتراخي أمران زائدان على حقيقة صيغة الأمر، فإذا أُمِر شخص بالسفر ولم يُحدد له زمان قريب أو بعيد، فإن هذا الأمر لا يدل إلا على مطلق السفر، فإذا حُدد له زمان معين اقتضى الفورية أو التراخي بواسطة الزمن المحدد لا بنفسه. وقيل: يقتضى الفور. وكل من قال بأنها تقتضى التكرار قال إنها تقتضى الفور.
والمراد بالتراخي عند من قال به: جواز التراخي، لا وجوبه، فلا ينافي أن من بادر كان ممتثلا.
من حيث دلالته على ما يتوقف عليه المأمور به:
تدل صيغة الأمر على وجوب ما يتوقف عليه إيجاد الفعل المأمور به، قال المصنف: “وَالْأَمْرُ بِإيجَادِ الْفِعْلِ أَمْرٌ بِهِ، وَبِمَا لَا يَتِمُّ الْفِعْلُ إِلَّا بِهِ، كَالأَمْرِ بِالصَّلَاةِ أمْرٌ بِالطَّهَارَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَيْهَا” الأمر بإيجاد الفعل أمر به وبما لا يتم ذلك الفعل إلا به، كالأمر بالصلاة فإنه أمر بالطهارة؛ لأن صحة الصلاة متوقفة على الطهارة، فلا تصحُّ إلا بالطهارة المؤدية إليها.
دلالة فعل الأمر على الإجزاء:
إذا أتى المكلف بالفعل الذي أُمِر به فقد برئت ذمته، واتصف فعله بالإجْزاءِ، قال المصنف: “وَإِذَا فُعِلَ يَخْرُجُ الْمَأْمُورُ عَنِ الْعُهْدَةِ” أي: إذا فُعِل المأمور به يخرج المأمور عن عهدة الأمر ويتصف الفعل بالإجزاء. وفي بعض النسخ: “وإذا فَعَلَهُ المأمورُ يخرج عن العهدة”، والمعنى أن المكلف إذا أُمر بفعل شيء ففعل ذلك الفعل المأمور به فإنه يكون بذلك قد خرج عن عهدة ذلك الأمر، ويتصف فعله هذا بالإجزاء، وهذا هو المختار، وقال قوم: إنه لا يحكم بالإجزاء بمجرد فعله، وإنما يحتاج إلى خطاب جديد.
النهي وصيغه في أصول الفقه
في اللغة: (نِهايةُ كلِّ شيءٍ: غايته، ومنه نَهَيته عنه، وذلك لأمرٍ يفعله، فإذا نَهَيته فانتهى، فتلك غايةُ ما كان وآخِره)، وقد سُمِّي العقل بالنُّهى؛ لأنه ينهى صاحبَه عما يخالف الصواب.
وأما في الاصطلاح، فهو: (طلب الكفِّ عن فعل، على جهة الاستعلاء).
فكف الطلب عن الفعل بمعنى طلب الامتناع عنه، فهو بعكس الأمرِ، الذي هو طلب إتيان الفعل، وكون طلب الكف على جهة الاستعلاء معناه: أن يكون النهي صادرًا من الأعلى إلى الأدنى، كما تقدم، فيَخرُج الدعاء والالتماس.
صيغة النهي:
صيغة النهي المشهورة هي: (لا تفعل)، ويُعَد من صيغة النهي كذلك كلُّ ما له دلالة على طلب الكفِّ؛ كقوله تعالى: ﴿ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [النحل: 90]، وقوله تعالى: ﴿ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ﴾ [الأنعام: 120]، وقوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ﴾ [المائدة: 3]، ونحو ذلك.
ويثبُت التحريم صريحًا بلفظ: (حرم)؛ كقوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ﴾ [النساء: 23].
وقد يثبت ببيان أن الفعلَ من الكبائر؛ كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألا أنبِّئكم بأكبر الكبائر؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين…))، وقد يثبت بالفعل (نهى) أو (ينهى) صريحًا؛ كقوله تعالى: ﴿ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ﴾ [النحل: 90]، ومن النهي أيضًا أن يذكر عقاب مرتكب الفعل في الآخرة؛ كقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ﴾ [النساء: 93]، وكقوله سبحانه نهيًا عن التكبُّر: ﴿ فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [النحل: 29]، أو يذكر عقابه في الدنيا؛ كقوله تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [المائدة: 38].
ولصراحة هذه الصيغ على التحريم لا يتوقف الأصوليون عندها كثيرًا، وإنما يبحثون في صيغة: (لا تفعل)؛ فهي ترِد في الاستعمال لعدة معانٍ، منها: التحريم؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الأنعام: 152]، والكراهة؛ كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 87]، والإرشاد؛ كقوله تعالى: ﴿ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: 101]، وبيان العاقبة؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾ [إبراهيم: 42]، وغير ذلك من استخداماتٍ عدَّدها الأصوليون؛ شغفًا منهم بالتكثير، وبعضها كالمتداخل.
وكما ورد الخلافُ فيما إذا وردت صيغةُ الأمر بلا قرينةٍ تؤكد الوجوبَ أو تصرِفُ عنه إلى الندبِ أو الإباحة، فقد ورد الخلافُ كذلك في صيغة النهي المجرَّدة عن القرينةِ.
والجمهور على أن دلالةَ النهي المطلَق هي التحريم؛ لورود الشرع على مقتضى لسان العرب في الإلزام؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ [البقرة: 188].
فدلَّ على تحريم الاعتداء على أموال الآخرين، فإذا وُجِدت قرينة صارفةٌ له عن معناه، تتوجه الدلالة حينئذٍ على وَفْق القرينة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ﴾ [الجمعة: 9]، فحمَله بعضُ العلماء على الكراهة؛ بقرينةِ أن النهي ليس عن ذاتِ البيع وحقيقته، وإنما هو للخوفِ من الانشغال به عن أداء الواجبِ، من المبادرةِ إلى الجمعة.
أما الدلالة على الفور أو التكرار، فيختلف النهيُ عن الأمر في ذلك؛ فالنهي عن الفعل يقتضي الانتهاءَ عنه دائمًا، ولا يتحقَّقُ مدلولُه إلا بالكفِّ عنه في جميع الأوقات، وهو يستلزم الفوريةَ؛ وذلك لأن طبيعةَ الفعل غير طبيعة الامتناع، فلا يُعقَل تحقُّق الامتناع بمرة، ثم تكون الإباحة، ثم نحتاج بعد ذلك إلى قرينةٍ جديدة تدل على طلب التَّرك من جديد.
وقد تدلُّ القرائن على أن النهيَ مؤقَّت بوقت، كما في نهي الحائض عن الصلاةِ والصوم؛ فقرينة الحيض تجعل النهيَ مؤقتًا بمدته، لا على وجه الدوام.
كما قد تصرف القرائنُ النهيَ عن الفورية فيما إذا كان النهي مقيَّدًا بشرط، فإن الفورية لا تتحقق إلا عند تحقُّق الشرط؛ كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ [الممتحنة: 10]، فإن تحقَّق الشرط وهو الامتحان والعِلم بإيمانهن فثَمَّ تحصل الفورية، أمَّا قبل ذلك، فلا حُكم للنهي في الفورية؛ لعدم تحقُّقِ شرطِه.